“جيب يا فم و قول”.. هل ستتحرك النيابة العامة لمتابعة التويزي بنشر أخبار زائفة؟

حجم الخط:

هبة بريس ـ الرباط

مع اقتراب الاستحقاقات الانتخابية في بلادنا، تتكاثف التحركات السياسية ويعلو صوت الخطابات الشعبوية التي يسعى أصحابها إلى كسب تعاطف المواطنين بأي وسيلة، ولو على حساب الاستقرار النفسي والاجتماعي للمغاربة.

وفي خضم هذا السياق، خرج علينا النائب البرلماني أحمد التويزي، رئيس الفريق النيابي لحزب الأصالة والمعاصرة، أحد أركان الأغلبية الحكومية، بتصريح صادم أمام عدسات الكاميرات وأعين العالم، مفاده أن “الورق يطحن ويقدم للمغاربة كدقيق مدعم”.

تصريح لم يمر مرور الكرام، بل زرع الخوف والهلع في نفوس المواطنين، وأثار موجة من السخط والاستغراب على مواقع التواصل الاجتماعي، فأن يخرج مسؤول سياسي بهذا الحجم ليتحدث عن “طحن الورق” في الدقيق المدعم هو أمر جلل، خصوصا إذا صدر عن نائب يمثل حزبا من صميم الحكومة التي يفترض أنه يدافع عن أدائها.

الأخطر من التصريح ذاته هو موقع صاحبه، فالتويزي ليس معارضا يهاجم الحكومة من خارجها، بل هو نائب برلماني عن حزب الأصالة والمعاصرة، الذي يعد أحد أعمدة الأغلبية الثلاثية المسيرة للشأن العام.

و بالتالي، فإن اتهامه للحكومة بالتقاعس عن الرقابة، وتلميحه إلى أن مطاحن البلاد تطحن الورق وتبيعه كدقيق، يطرح أكثر من علامة استفهام حول دوافع هذا الكلام، وتوقيته، ومآلاته السياسية.

جميل أن يتحلى نواب الأمة بالجرأة في فضح التجاوزات والاختلالات، لكن الجرأة لا تعني التهويل، ولا تبرر بث الرعب بين المواطنين بتصريحات تفتقر إلى الدقة والحجة والدليل.

وبينما كان الرأي العام ينتظر تحرك النيابة العامة للتحقيق في هذه الاتهامات الخطيرة التي تمس الأمن الغذائي للمغاربة، فاجأ التويزي الجميع بخروج جديد، تراجع فيه عن تصريحاته الأولى بما مفاده: “نتوما الشعب لي فيكم المشكل ما فهمتونيش شنو قلت”.

توضيح مثير للشفقة أكثر منه للتفسير، فقد زعم أن كلامه أسيء فهمه، وأنه لم يقصد أن المغاربة يأكلون الورق فعلا، بل أراد الحديث عن “بعض المطاحن التي تتلاعب في فواتير الدقيق المدعم لتحقيق أرباح إضافية”.

لكن، أسي التويزي، دعنا نكون صريحين، ما قلته كان واضحا وضوح الشمس، ولا يحتاج إلى تأويلات لغوية أو فقهية، لقد تحدثت عن “طحن الورق” بصيغة حاسمة، لا لبس فيها، وإذا كنت تعلم كما قلت لاحقا أن “الورق أغلى من الدقيق”، فلماذا اخترت هذا المثال تحديدا لتهاجم الحكومة وتتهمها بالتقصير؟ هل هي زلة لسان، أم محاولة متعمدة لخلق ضجة إعلامية تكسبك بعض النقاط الانتخابية؟

السياسة ليست مجرد منبر للخطابة أو منصة للمزايدات، بل هي مسؤولية أخلاقية قبل أن تكون موقعا تشريعيا، والبرلماني، حين يتحدث أمام الرأي العام، لا يتحدث بصفته الفردية فقط، بل بصفته ممثلا للأمة وناطقا بإسم مؤسسة دستورية.

اتهام المطاحن دون دليل، والتشكيك في جودة الدقيق الذي يستهلكه المغاربة منذ سنوات، أمر لا يمكن التغاضي عنه، لقد روعت المواطنين بتصريحك، وأثرت الذعر بين الأسر، وأضعفت ثقة الناس في مؤسسات المراقبة وجودة المواد الغذائية، فقط من أجل تسجيل موقف سياسي ظرفي.

ولأن دولة المؤسسات لا تقوم على الفوضى الكلامية، فإن القانون المغربي واضح في هذا الباب، إذ تنص الفقرة الأولى من المادة 72 من القانون المؤطر لذلك على ما يلي:

“يعاقب بغرامة من 20.000 إلى 200.000 درهم كل من قام بسوء نية بنشر أو إذاعة أو نقل خبر زائف أو ادعاءات أو وقائع غير صحيحة أو مستندات مختلقة أو مدلس فيها منسوبة للغير إذا أخلت بالنظام العام أو أثارت الفزع بين الناس، بأية وسيلة من الوسائل…”

وبناءا عليه، فإن النيابة العامة مطالبة اليوم بالتحرك بجدية للتحقيق في هذه التصريحات التي أحدثت بلبلة عامة، وتسببت في نشر أخبار ربما تكون زائفة مست الأمن الغذائي للمواطنين، لأن القانون لا يميز بين مواطن بسيط ينشر خبرا كاذبا على “فيسبوك” وسياسي يتفوه به أمام الإعلام و لو عن دون قصد.

السياسي الناجح لا يحتاج إلى الصراخ ولا إلى اختلاق القصص لكسب التعاطف، الأصوات الانتخابية لا تشترى بالتهويل، بل تكسب بالعمل الميداني، وبالصدق، وبخدمة المواطنين، و”المعقول”، كما يقول المغاربة، هو ما يصنع الفارق الحقيقي بين من يخدم وطنه، ومن يخدم مصالحه.

أسي التويزي، ما قلته كان خطيرا بما يكفي لتتحرك النيابة العامة، ليس انتقاما منك، بل صونا لكرامة المغاربة وطمأنينتهم، لأن من يزرع الخوف في الناس تحت غطاء “الجرأة السياسية” لا يخدم الوطن، بل يعبث بثقة المواطن في مؤسسات بلاده.

ربح الأصوات الانتخابية لا يكون بمهاجمة الحكومة التي ينتمي حزبك إليها، ولا ببث أخبار مضللة تزرع الشك والهلع، العمل الصادق، والإنصات للمواطنين، والترافع الجاد داخل البرلمان، هي السبيل الحقيقي لنيل ثقة الناس، أما “جيب يا فم و قول”، فزمنها ولى، والمغاربة اليوم أكثر وعيا مما تظن.

وزمن الشعبوية والكلام “الخاوي” كنا نعتقد واهمين أنه انتهى بنهاية حقبة بنكيران، فإذا بنا نفاجأ يوم أمس ب”بنكيران” جديد لكن هذه المرة بقبعة مسؤول من الأغلبية، بمجرد ما “حس بالصهد” خرج ليقول “والله ما كنت ناوي داكشي لي قلت”.

صدق من قال السياسة بنت كلب، لكن على النيابة العامة أن تضرب بيد من حديد وتتدخل للتحقيق مع التويزي، إن صحت أقواله و له من الدلائل ما يثبتها وجب معاقبة الفاسدين المتلاعبين بصحة المغاربة كبيرا كان شأنهم أم صغيرا، و إن كانت مجرد “خزعبلات” سياسية وجب ترتيب الجزاءات عليه باعتبارها أخبارا تروع أمن المواطنين و تبث الفزع و الهلع بين صفوفهم، فلا يمكن السماح لأي شخص مهما علا شأنه أو صغر أن يقول ما يشاء، الجرأة شيء، وإثارة هلع المغاربة بأخبار مضللة شيء آخر.