هبة بريس – عبد اللطيف بركة
شكل الإعلان الروسي الأخير عن نجاح اختبار صاروخها المجنّح العامل بالطاقة النووية، المعروف باسم “بوريفيستنيك” (Burevestnik)، نقطة تحوّل جديدة في مشهد التسلّح العالمي، وخصوصًا في ظلّ التوتر المتصاعد بين موسكو وواشنطن، والحرب المستمرة في أوكرانيا التي أعادت العالم إلى أجواء الحرب الباردة.
– ابتكار روسي أم رسالة سياسية؟
أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن موسكو اختبرت بنجاح الصاروخ الجديد، الذي يتميّز بمدى غير محدود تقريبًا، وقدرته على التحليق لساعات طويلة — إذ ذكرت التقارير أن التجربة الأخيرة استمرت نحو 15 ساعة وغطّت مسافة تقارب 14 ألف كيلومتر.
يعتمد الصاروخ على محرّك نووي مصغّر يتيح له البقاء في الجو لفترات طويلة دون الحاجة للتزود بالوقود، ما يمنحه قدرة فريدة على تجاوز أنظمة الدفاع الجوي التقليدية، والوصول إلى أهداف بعيدة من مسارات غير متوقعة.
إلا أن هذا “الإنجاز التكنولوجي” لا يمكن فصله عن سياقه السياسي والعسكري. فبوتين أعلن عن التجربة في لحظة حساسة: تزامنت مع تصاعد الهجمات الروسية في أوكرانيا، وتدهور العلاقات مع الغرب، وفرض واشنطن عقوبات جديدة على شركات الطاقة الروسية. لذا، يرى كثير من المحللين أن موسكو أرادت من الإعلان إرسال رسالة مزدوجة:
داخليًا، لترميم صورة القوة الروسية بعد حرب طويلة ومكلفة.
خارجيًا، لتذكير واشنطن والناتو بأن روسيا ما زالت قادرة على مفاجأتهم تكنولوجيًا وعسكريًا.
– الرد الأمريكي: توازن الردع أم عودة إلى الاستعراض النووي؟
جاء ردّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سريعًا، إذ علّق قائلًا إن لدى الولايات المتحدة “غواصات نووية هي الأعظم في العالم، متمركزة بالقرب من روسيا”، في إشارة إلى استمرار تفوق واشنطن في القدرات النووية البحرية.
ورغم أن ترامب حاول التقليل من أهمية التجربة الروسية، فإن تصريحه يعكس بوضوح قلق واشنطن من أي اختراق في ميزان الردع النووي الذي ظلّ مستقرًا نسبيًا منذ نهاية الحرب الباردة.
هذا التبادل اللفظي يعيد إلى الأذهان مرحلة “سباق التسلّح” بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، حين كانت كل قوة تسعى إلى إثبات قدرتها على الردع الشامل والتفوّق التقني، ولو عبر تجارب خطيرة.
– العالم بين توازن الرعب والتكنولوجيا النووية
الصاروخ الروسي الجديد إن صحّت قدراته لا يمثل مجرد سلاح جديد، بل تحولًا في مفهوم الردع نفسه. فالصواريخ النووية السابقة كانت تعتمد على مسار محدد وسرعة عالية، بينما هذا النوع الجديد يجمع بين الاستمرارية، والمناورة، والتخفي، ما يجعله قادرًا نظريًا على الالتفاف حول الكوكب وضرب الأهداف من أي اتجاه.
لكن هذا التطور يحمل في طياته مخاطر بيئية وتقنية هائلة. فالمحركات النووية الصغيرة التي تشغّل الصاروخ تثير مخاوف من تسرب إشعاعي في حال فشل الإطلاق، وهو ما أشارت إليه تقارير سابقة عن حوادث خلال تجارب أولية لهذا المشروع منذ عام 2019.
– هل يتجه العالم إلى هيمنة جديدة؟
يمكن القول إن تجربة “بوريفيستنيك” لا تمثل مجرد تقدّم عسكري، بل تعبيرًا عن تحوّل في موازين الهيمنة العالمية. فروسيا، التي تواجه عزلة اقتصادية وعسكرية، تسعى لتأكيد مكانتها كقوة عظمى قادرة على كسر التفوق الغربي من خلال الابتكار التكنولوجي في مجال الردع النووي.
في المقابل، قد يدفع هذا التطور الولايات المتحدة والصين إلى تسريع برامجها الخاصة بالصواريخ الفرط صوتية والمفاعلات النووية المصغّرة، ما يفتح الباب أمام سباق تسلّح جديد، أكثر تعقيدًا وأقل قابلية للضبط عبر المعاهدات التقليدية.
– العودة إلى منطق القوة
تجربة الصاروخ الروسي العامل بالطاقة النووية ليست مجرد حدث عسكري، بل إعلان عن عودة منطق القوة النووية كأداة للنفوذ الجيوسياسي. وبينما تحاول واشنطن الحفاظ على توازن الردع عبر تفوقها البحري والتقني، تبدو موسكو مصممة على إعادة كتابة قواعد اللعبة.
السؤال الذي يفرض نفسه اليوم: هل نحن أمام تعدد أقطاب نووية جديد يقوده الابتكار التكنولوجي، أم أمام بداية مرحلة من الفوضى الاستراتيجية حيث يصبح الردع النووي نفسه رهينة للمغامرة السياسية؟

 
                     
                     
                     
                     
                     
                     
                     
                     
                    