ما قصة اللون الأصفر الذي تطلى به حافلات المدارس ؟

حجم الخط:

هبة بريس – عبد اللطيف بركة

في كل صباح، ومع أولى خيوط الضوء، تتباطأ حركة السير، ويعلو مشهد مألوف: حافلات صفراء تشق طريقها بين المركبات، تقف هنا وهناك لاصطحاب جيل المستقبل من أمام منازلهم. مشهد بات جزءاً من ذاكرة المدن ولكن، هل تساءل أحد يوما لماذا هذا اللون بالتحديد؟ لماذا الأصفر؟.

قد يبدو الأمر تفصيلاً بسيطاً أو حتى اختياراً عشوائياً، لكنه في الواقع قرار علمي مصيري اتُّخذ قبل أكثر من 85 عاماً، بهدف وحيد وهو حماية أرواح الأطفال.

الأصفر… لون الرؤية والبقاء

في علم البصريات، يُعتبر اللون الأصفر من أكثر الألوان قدرة على جذب الانتباه. ليس فقط لأنه زاهٍ أو لافت بصرياً، بل لأن العين البشرية تلتقط موجاته بسرعة، وتحتفظ به في الذاكرة بوضوح، خصوصاً في ظروف الإضاءة الطبيعية. بل الأهم من ذلك، أن الأصفر يظل مرئياً حتى في الضباب والمطر والظروف الجوية السيئة، ما يجعله خياراً مثالياً للفت نظر السائقين في الطرق المزدحمة.

والأمر لا يتوقف عند اللون فقط، فحتى النص الأسود المكتوب على خلفية الحافلة الصفراء تم اختياره بعناية لخلق أقصى درجة من التباين، مما يُسهّل قراءته من مسافات طويلة، سواء كانت الحافلة متوقفة أو في حالة حركة.

– القصة التي بدأت من الفوضى… وانتهت بمعيار عالمي

تعود القصة إلى عام 1939، حين لاحظ الأكاديمي الأمريكي فرانك دبليو سير، أستاذ التربية في جامعة كولومبيا، حجم الفوضى التي كانت تحيط بوسائل النقل المدرسي في الولايات المتحدة. حافلات بألوان وأشكال مختلفة، بل وفي بعض المناطق كانت تُستخدم عربات تجرها الخيول لنقل الأطفال! مشهد عبثي لا يليق بسلامة فلذات الأكباد.

فما كان من سير إلا أن دعا إلى مؤتمر وطني بمشاركة مسؤولين ومهندسين وخبراء في التربية والنقل. وكانت نتيجة ذلك المؤتمر التاريخي: 44 معياراً موحداً لحافلات المدارس، أبرزها على الإطلاق اختيار لون أصفر لامع بعينه، أُطلق عليه لاحقاً اسم: “الكروم الوطني لحافلات المدارس”.

– اللون الذي غيّر سلوك السائقين

لم يكن الهدف تجميليا أو دعائياً، بل استراتيجياً بامتياز. فقد أكدت دراسات لاحقة أن اللون الأصفر للحافلات بات يرتبط ذهنياً في وعي السائقين بوجود أطفال قريبين، مما يدفعهم  حتى دون تفكير إلى خفض السرعة والانتباه.

ورغم أن اللون الأحمر معروف بقوة في إشارات المرور والتنبيه، إلا أن استخدامه المكثف جعله أقل تميزاً، وربما يسبب ارتباكاً في السياقات غير الواضحة. أما الأصفر، فبقي رمزاً واضحاً وموحداً لكل ما يتعلق بالأطفال والسلامة.

ويقول ويليام سير، نجل فرانك سير، في حديثه لصحيفة “نيويورك تايمز” عام 2013:

“كانوا يريدون لوناً لا يمكن تجاهله، لوناً يقول من بعيد: انتبه! هناك أطفال هنا!”

– إرثٌ لا يتغيّر

في عالم تغيّرت فيه اللوائح والقوانين والتعليمات مراراً، بقي اللون الأصفر للحافلات المدرسية ثابتاً لا يتغير، رمزاً عالمياً للسلامة والانضباط والحرص على جيل المستقبل.

ليس مجرد طلاء، بل قرار أنقذ ملايين الأطفال حول العالم، ودليل حي على أن التفاصيل الصغيرة، حين تُبنى على العلم والبصيرة، قد تصنع فارقاً هائلاً في حياة الناس.

حين ترى حافلة صفراء في الطريق، تذكر أن خلف هذا اللون قصة من العلم والمسؤولية والحب الخالص للأطفال. إنها ليست مجرد وسيلة نقل، إنها درع أمان متحرك، صُنع بلونٍ لا يُنسى.