هبة بريس – عبد اللطيف بركة
في إحدى الحوارات الصحفية التي خُلدت في ذاكرة المغاربة، وجّه أحد الصحفيين سؤالاً إلى جلالة الملك الراحل الحسن الثاني، متحدثاً عن قناة تلفزية رسمية لإحدى الدول التي وصفت المغاربة بأنهم “حمقى”. فجاء رد الملك، كعادته، ببلاغة العارف وحكمة القائد، قائلاً في معنى جوابه: “إذا كان الجنون هو أن يحرر شعبٌ أعزل وطنه دون سلاح ولا مال، وأن يسير في صحرائه بالقرآن في يده والعلم الوطني في اليد الأخرى، دون أن تُراق قطرة دم… فمرحى بهذا الحمق، لأنه حمق إيجابي.”
تلك الكلمات لم تكن مجرد ردٍّ دبلوماسي أو تبرير عابر، بل كانت دروساً في الوطنية والسياسة والكرامة. فقد اختصر الحسن الثاني في جملة واحدة روح أمة وعبقرية شعب استطاع أن يثبت للعالم أن الإرادة الصادقة أقوى من كل الجيوش والأسلحة.
لقد جسّدت المسيرة الخضراء، التي دعا إليها الملك سنة 1975، ذروة هذا “الحمق الإيجابي” الذي تحدث عنه. مئات الآلاف من الرجال والنساء لبّوا نداء الوطن، يحملون كتاب الله والعلم المغربي، لا البندقية ولا المدفع. مشهد مهيب رسم صورة جديدة للنضال، حيث تتحول الإرادة الشعبية إلى سلاح أقوى من الحديد والنار.
ما بين حكمة الحاكم وإيمان المحكومين، نشأت معجزة مغربية تُدرَّس في كتب التاريخ والسياسة. الحسن الثاني لم يكن يرى في “الحمق” إلا رمزاً للجرأة الخلاقة، تلك التي تدفع الشعوب إلى كسر المستحيل، وتُحوِّل الحلم إلى واقع.
والمغاربة، بتلاحمهم ووحدتهم، أكدوا أن الولاء للوطن والعرش يمكن أن يُعيد كتابة الجغرافيا دون أن تسيل قطرة دم واحدة.
اليوم، وبعد عقود من تلك اللحظة المضيئة، ما زال صدى كلمات الملك يرنّ في الذاكرة الوطنية. فـ”الحمق الإيجابي” الذي تحدث عنه الحسن الثاني ليس سوى الإيمان العميق بالمغرب وبقدرته على النهوض مهما اشتدت التحديات. وهو ذات الإيمان الذي واصل بناءه خلفه الملك محمد السادس، بوعيٍ عصريٍّ ورؤيةٍ تنمويةٍ تمتد من عمق التاريخ إلى آفاق المستقبل.
هكذا يثبت المغرب مرة أخرى أن حكمة الملوك وشجاعة الشعوب حين تلتقي، تُصنع المعجزات وتُرسم ملامح وطنٍ يُشهد له في المحافل، ويُضرب به المثل في الإصرار والاعتزاز بالهوية.
