هبة بريس – عبد اللطيف بركة
في سياق يتسم بتعدد التحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تواجه المغرب، جاءت كلمة إدريس لشكر، الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، خلال أشغال المؤتمر الوطني الثاني عشر للحزب المنعقد بمدينة بوزنيقة، كمداخلة تحمل أبعادًا تحليلية ونقدية في آن، ساعية إلى مساءلة الوضع المؤسساتي، وموقع الدولة، وجدوى السياسات العمومية في تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية.
الخطاب لم يكن استعراضًا سياسويًا معتادًا، بل محاولَةً لإعادة صياغة أسئلة مركزية تهمّ وظائف الدولة والمؤسسات، كما حاول استحضار أعطاب بنيوية تعوق التناسق بين مختلف مستويات الحكامة.
لشكر لم يخف قلقه من اتساع الهوّة بين الأجهزة التنفيذية وبين الهيئات التي كان يُفترض أن تؤدي أدوارًا استشارية محايدة، محذرًا مما سماه “ازدواجية هندسية في القرار العمومي”، حيث تصبح المؤسسات غير المنتخبة جزءًا من آليات التخطيط والتنفيذ، دون أن تكون خاضعة لأدوات الرقابة والمساءلة الديمقراطية.
يتعلق الأمر هنا بإثارة إشكالية عميقة تتصل بتوازن السلط داخل النظام السياسي، وبالتحديد بحدود تدخل مؤسسات الحكامة التي يُفترض أن تمثل بُعدًا استشاريًا داعمًا، لا أن تتحول إلى بدائل غير معلنة للقرار الحكومي. وهي دعوة ضمنية لتقييم دور هذه المؤسسات، ليس فقط من حيث نجاعة مخرجاتها، بل من حيث تأثيرها على التناسق العام في العمل المؤسساتي، وارتباطها بالمشروعية التمثيلية.
الخطاب تميز كذلك بجرأة في تفكيك العلاقة بين الدولة والمجتمع، من خلال نقد التحولات التي عرفها مفهوم “التنمية” ذاته. فحسب لشكر، لم تعد التنمية تُقاس من منظور اجتماعي أو تحرري، بل أصبحت خاضعة لمنطق تقني يُنتج أرقامًا موجّهة لصناديق التمويل أكثر من كونها تعكس واقع الحاجات الداخلية. وقد ذهب أبعد من ذلك حين اتهم الإدارة العمومية بالتحول إلى أداة وظيفية لإرضاء مؤشرات خارجية، بدل أن تكون أداة لخدمة المواطنين.
الرسالة السياسية من هذا الطرح واضحة: هناك اختلال في البوصلة، حيث بات المشروع الوطني يتآكل بين منطق السوق، وضغوط الممولين الدوليين، وضعف السيادة على القرار الاجتماعي. من هذا المنطلق، جاءت الدعوة إلى “التحرر من الوصاية التقنية”، كرسالة سياسية موجهة إلى من يربط الخيارات الاقتصادية والاستثمارية بإملاءات خارجية.
غير أن الخطاب لم يكتف بالنقد، بل حمل ملامح تصور بديل، يتأسس على الانتقال من دولة تسعى إلى تعويض الفئات الهشة عبر الدعم المباشر، إلى دولة محفّزة على المبادرة، تُعيد الاعتبار لتكافؤ الفرص، وتراهن على الذكاء الجماعي، وتُدمج المواطن في كل مراحل صناعة القرار، من التشخيص إلى التقييم. هذا التحول من “الدولة المسعفة” إلى “الدولة الممكنِة”، كما صوّره لشكر، يتطلب إعادة النظر في منطق تدبير السياسات العمومية برمته.
الجدير بالتأمل أن كلمة لشكر حمَلت بعدًا سياسيًا يتجاوز الإطار الحزبي، في محاولة لبلورة طرح يلامس جوهر الأزمة الديمقراطية في المغرب، والمحدودية التي تطبع العلاقة بين الدولة والمجتمع. فقد شدد على أن الديمقراطية الاجتماعية لا يمكن اختزالها في نتائج الاقتراع أو البرامج الحكومية، بل تتجلى في الممارسة اليومية لحق المشاركة، والتمكين، والاستفادة من ثمار التنمية، لا في انتظار التوزيع العادل للفقر.
بذلك، تكون كلمة الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي، بمناسبة المؤتمر الوطني الثاني عشر، قد قدّمت قراءة نقدية في عمق إشكالات المرحلة، مستحضرة تحديات التنمية، وأعطاب الحكامة، وتآكل الثقة، ومؤشرات اللامساواة، ضمن رؤية تُعيد طرح السؤال الجوهري حول معنى الدولة، ووظائفها، ومآلات المشروع الوطني. إنها ليست مجرد لحظة خطابية، بل مساهمة سياسية تتطلب نقاشًا وطنيًا أوسع، يتجاوز الاصطفاف الحزبي، نحو إعادة بناء التعاقد الاجتماعي على أسس المشاركة، والعدالة، والسيادة على القرار.